رسوم الإقصاء الثقافي

رسوم الإقصاء الثقافي

قراءة نقدية في القرار الوزاري حول كراء القاعات الفنية بالمغرب


إعداد: حُستي محمد


مقدمة

يُعدّ القرارُ الوزاريُّ المشتركُ القاضي بفرض رسومٍ ماليةٍ مرتفعةٍ على استغلال الفضاءات والبُنى الثقافية التابعة لوزارة الثقافة المغربية إجراءً إداريًّا صادمًا وغيرَ مسبوقٍ في سياقه الزمني والاجتماعي، إذ جاء في مرحلةٍ تشهد فيها الساحةُ الفنيةُ والثقافيةُ الوطنيةُ تراجعًا ملحوظًا على مستوياتٍ عدّة: من ضعف الإنتاج، إلى ندرة فرص العرض، مرورًا بالهشاشة البنيوية التي تعاني منها غالبيةُ الفرق الفنية والفنانين الأفراد، وخصوصًا الشباب منهم. لقد أثار هذا القرار، الموقَّع من طرف وزير الثقافة محمد المهدي بنسعيد والوزيرِ المنتدَبِ المكلَّفِ بالميزانية فوزي لقجع، والمنشورِ في الجريدة الرسمية عدد 7411 بتاريخ 9 يونيو 2025، موجةَ استنكارٍ عارمة في أوساط الفنانين المسرحيين والتشكيليين، حيث اعتُبر بمثابة نكسةٍ ثقافيةٍ تضرب في العمق الحقَّ في الإبداع والولوج الحرّ إلى الفضاء العمومي الثقافي. ويكتسب هذا الإجراء حساسيته المفرطة لكونه يمسّ جوهرَ مفهوم «الديمقراطية الثقافية»، الذي يفترض أن تُبنى عليه سياساتُ الدولة في المجال الفني، ويُقوِّض مبدأ «العدالة الإبداعية» الذي يقوم على تكافؤ الفرص بين الفاعلين الثقافيين بغضّ النظر عن أوضاعهم الاقتصادية أو انتماءاتهم الجغرافية أو مؤسساتهم الراعية.

ولعلّ التوقيتَ الذي جاء فيه هذا القرار يثير أكثرَ من علامة استفهام، حيث يتناقض بشكلٍ صارخ مع ما تمّ الإعلان عنه في التقرير الرسمي للنموذج التنموي الجديد، الذي منح الثقافةَ موقعًا استراتيجيًّا في معادلة التنمية الوطنية، داعيًا إلى دعم الإبداع المحليّ وتشجيع المشاركة الثقافية الواسعة للمواطنين والفنانين على حدٍّ سواء. ومن ثَمّ، فإن فرض رسومٍ ماليةٍ ثقيلةٍ لاستغلال قاعات العرض والمسارح وفضاءات الفن التشكيلي لا يُقرأ إلا كإجراءٍ بيروقراطيٍّ يفتقر إلى الحسّ الثقافي والاجتماعي، ويُجسِّد انزلاقًا مقلقًا نحو تسليع العمل الثقافي بدلَ حمايته وتشجيعه. إن هذا المستجد يطرح إشكالياتٍ جوهريةً تتجاوز الطابع الماليّ المحض، ليضعنا أمام مفترق طرقٍ بين رؤيتين متناقضتين: الأولى ترى الثقافةَ حقًّا مدنيًّا وإنسانيًّا مشاعًا، والثانية تختزلها في خدمةٍ خاضعةٍ لمنطق السوق والربح. وبالتالي، يصبح من الضروري مساءلةُ هذا القرار في ضوء القيم الدستورية، والسياقات الاجتماعية، وحاجات الحقل الفني الوطني، من أجل صياغة نقدٍ موضوعيٍّ يُراعي التوازن بين متطلبات التسيير الإداري وضرورات العدالة الثقافية.


نقد القرار الوزاري

يُعدّ القرارُ الوزاريُّ المشتركُ القاضي بفرض رسومٍ مرتفعةٍ على استغلال الفضاءات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة المغربية إجراءً مثيرًا للجدل، ويستدعي وقفةً نقديةً عميقةً من منظور السياسات الثقافية، والعدالة الإبداعية، والديمقراطية الثقافية.

أوّلًا: قراءة في سياق القرار

صدر القرار بتاريخ 9 يونيو في الجريدة الرسمية (عدد 7411)، ويقضي بفرض رسومٍ على استغلال القاعات الثقافية الكبرى، من قبيل:

30 ألف درهم لاستعمال القاعات الكبرى بقصر الثقافة والفنون بطنجة.

7 آلاف درهم للقاعات الصغرى.

3 000 إلى 17 400 درهم للفنانين التشكيليين مقابل عرضٍ أسبوعيٍّ للوحاتهم.

جاء هذا القرار في سياق أزمةٍ ثقافيةٍ واقتصاديةٍ خانقة، حيث يشتكي الفنانون من ضعف فرص العرض والدعم.

ثانيًا: التحليل النقدي للإجراء

ضربٌ لمبدأ «الديمقراطية الثقافية».

فرضُ رسومٍ باهظةٍ على القاعات يعني تحويل الفعل الثقافي إلى سلعةٍ نُخبوية.

انفصامٌ عن واقع الحقل الفني الوطني؛ فالغالبية لا تتوفر على مدخولٍ قارٍّ ولا تستفيد من الدعم.

تناقضٌ مع خطاب «النموذج التنموي الجديد» الذي يوصي بدعم الثقافة.

غيابُ الرؤية التشاركية؛ إذ لم تُستشَر النقابات أو المهنيون في بلورة القرار.

خطرُ إفراغ القاعات؛ فهي مهدَّدة بأن تصبح مغلقةً أمام الفنانين المحليين.

ثالثًا: بدائل مقترحة

تسعيرةٌ رمزيةٌ للفنانين غير المدعومين.

إعفاءُ الفرق الشبابية.

دعمٌ مباشرٌ للعروض.

صندوقٌ تضامنيٌّ جهويّ.

تمييزٌ إيجابيٌّ للمناطق الهشّة.


خاتمة

إن القرار الوزاري المشترك، في صيغته الحالية، يضع مستقبلَ الإبداع الثقافي المغربي أمام تحدياتٍ حقيقيةٍ لا تتعلّق فقط بالشقّ المالي، بل تمتدّ إلى البعد الرمزي والسياسي والاجتماعي الذي يتعيّن على المؤسسات العمومية الثقافية النهوضُ به. فالثقافة ليست قطاعًا هامشيًّا، بل هي ركيزةٌ لبناء مجتمع المعرفة، وتعزيز قيم الانتماء والابتكار، وإشاعة التنوع والتسامح.

إن فرض رسومٍ ثقيلةٍ على استعمال الفضاءات الثقافية العمومية يهدد بتحويل هذه الأخيرة إلى أماكنَ معزولةٍ عن الفنانين الشباب، والفرقِ غير المدعَّمة، والمبدعين في المناطق القروية والهامشية، ويزيد من تكريس المركزية الفنية واحتكار التعبير الثقافي من طرف المؤسسات الكبرى أو الفئات القادرة على الدفع فقط. ومن ثَمّ، فإن التراجع عن هذا القرار أو مراجعته في اتجاهٍ أكثر عدلًا هو ضرورةٌ ملحّةٌ تفرضها روحُ المسؤولية الثقافية، ويمكن أن يتحقّق ذلك عبر تبنّي مقترحاتٍ بديلةٍ من داخل الساحة الفنية نفسها، ومنها:

إنشاءُ منصةٍ إلكترونيةٍ وطنيةٍ للحجز العادل لفضاءات العرض، تعتمد معاييرَ الشفافية وتراعي أولوية الفنانين غير المدعومين.

وضعُ نظامِ تسعيرٍ متدرّجٍ يعتمد على طبيعة النشاط، وميزانية الإنتاج، وخصوصية الجهة أو المجال الترابي.

تخصيصُ نسبةٍ من مداخيل التظاهرات الكبرى (مثل المهرجانات أو الأنشطة الرسمية) لتمويل عروض الفنانين المحليين.

فتحُ حوارٍ مباشرٍ ومستمرٍّ مع النقابات الفنية والتنسيقيات الجهوية، لبلورة سياساتٍ ثقافيةٍ تشاركيةٍ قائمةٍ على القرب والعدالة.

إطلاقُ برنامج «ثقافة القرب» بالشراكة مع الجماعات المحلية، لتوفير فضاءاتِ عرضٍ مجانيةٍ أو مدعَّمة في الأحياء الشعبية والمناطق القروية.

تقديمُ تحفيزاتٍ جبائيةٍ للرعاة الخواص الذين يمولون العروض الفنية في الفضاءات العمومية.

إن مراجعة القرار لا تعني بالضرورة التخلي عن مبدأ الأداء الرمزي لبعض الخدمات، بل تعني التفكير في نموذجٍ ثقافيٍّ جديدٍ لا يُقصي بل يحتضن، ولا يُميّز بل يفتح المجال أمام الجميع، حتى تبقى الثقافة المغربية مرآةً لتعددها، وجسرًا بين فئاتها، وفضاءً حيًّا للحرية والإبداع.


المراجع:

  1. Bourdieu, Pierre. La distinction, Éditions de Minuit, 1979.
  2. Honneth, Axel. La lutte pour la reconnaissance, Éditions du Cerf, 2000.
  3. اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي المغربي، تقرير 2021 – https://csmd.ma
  4. دستور المملكة المغربية، 2011، الفصول 26 و31 – http://www.sgg.gov.ma
  5. منشورات وزارة الثقافة حول دعم الفنون 2022-2024 – http://www.minculture.gov.ma
  6. https://www.alayam24.com/articles-576017.html

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *