صدر للدكتور محمد احميدة كتاب بعنوان (في صحبة عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري) عن مطابع الرباط نت، يناير 2025. والكتاب من الحجم المتوسط، يتكون من مائتين وخمس وثمانين صفحة، استهله بإهداء إلى روح أستاذه عباس الجراري بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله، وأردفه بصورة رائعة للدكتور محمد احميدة رفقة المرحوم الأستاذ عباس الجراري، وهي صورة فوتوغرافية تحمل أكثر من دلالة على أواصر الأخوة والصحبة الطيبة، فهما إخوان الصفا، وخلان وفا، سنين عددًا، تعاهدا على الوفاء والإخلاص لخدمة الأدب المغربي الأصيل، وتسلّحا بالعدة والعتاد المنهجيين لإخراج متون نصية مغربية أصيلة وأثيلة، وتقاسما أواصر البحث العلمي الرصين في الأدب المغربي، والصورة في أبهى تجلياتها توثق لحفل تقديم كتاب (زهرة الآس في فضائل العباس) الذي يضم أبحاثًا مهداة إلى عميد الأدب المغربي في عيده الستين، وقد التقطت بعدسة المصورين في حفل بهيج أقيم في مدرج الشريف الإدريسي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، بتاريخ 15 فبراير 1997 ميلادية.
وقد دبّج الدكتور محمد احميدة الصفحتين السابعة والثامنة من هذا السجل/السيرة الغيرية بتوطئة مركزة دوّنَت -على حد تعبيره- جانبًا من المسار الذي جمعه بالفقيد عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري، والذي بدأ يختلف إلى محاضراته بفاس في سنوات الإجازة إلى حصوله على شهادة الدكتوراه بعد مناقشة أطروحته تحت إشرافه العلمي. وقد اتخذ من حلول الذكرى الأولى لرحيل الأستاذ عباس الجراري إلى دار البقاء مناسبة جليلة لإخراج هذا السفر إلى حيز الوجود، رغبةً منه في إحياء ذكرى رحيله وتذكيرًا بفضائل العباس، وما أسداه سخاءً رخاءً من أعمال خدمة لوطنه، فقد كان رحمه الله نموذجًا للأديب المغربي الأصيل، والمفكر الغيور على هويته، والمتفاني في البذل والعطاء، ومن ثَمّ فقد اعتبره قدوةً للأجيال القادمة. كيف لا؟ والشخصية التي من أجلها اختار منهج الاسترسال في الحديث عن خصالها ومزاياها في البحث العلمي الرصين “تُعتبر بحق من أعلام الفكر والثقافة في بلدنا، بل في العالم العربي والإسلامي.”
وقد صَعُب عليه أن يستقصي كل ذكريات صحبته في هذا السفر الأول الذي اعتبره بمثابة جزء أول، ولا شك أن الأجزاء الأخرى ستصدر تباعًا لا محالة، فالفقيد قد خلّف أسفارًا في الأدب المغربي، إن في السيرة الذاتية (رحيق العمر)، أو في فن الملحون، والأدب الشعبي، والنصوص الشعرية، والخطب المنبرية، والتقديمات المبثوثة في دواوين الشعراء المغاربة، وكذا إصدارات النادي الجراري؛ هذه الإصدارات قد تتضمن فراغات، وفجوات، وبياضات، باعتبارها مكونات أساسية في نظرية الأدب، ستحتفي بها الأجزاء المتبقية من السيرة الغيرية التي انبرى لها الدكتور محمد احميدة، ورغبته جامحة في أن يبسط فيها الكلام بشكل أوسع، ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان، فالوقت لم يسمح إلا بهذا النزر من الحكي المسترسل، وهو بمثابة محكيات كبرى ستتناسل منها محكيات، وسرود، وحوارات، ورسائل في الأدب والفن. والصور الفوتوغرافية المضمّنة في الملحق هي بمثابة علامات سيميائية سيؤولها الدكتور محمد احميدة، وسيتوسع في سياقاتها، ودلالاتها، وسيربطها بأجزاء السيرة الذاتية (رحيق العمر)، وغيرها من مؤلفات العباس، ليستنبط منها دُررًا، ونفائس أدبية مغربية، تشهد على عبقرية عميد الأدب المغربي عباس الجراري، وموسوعيته، وتنسكه في محراب العلم، والبحث الجامعي الذي أراد له أن يكون منتوجًا مغربيًا خالصًا، وقد انبرى لذلك منذ تأليفه لكتاب (الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه) الذي كان يُدرّس لتلاميذ الباكالوريا، شعبة الأدب في المدرسة المغربية في الثمانينات من القرن الماضي.
وقد ضمّن الدكتور محمد احميدة كتابه (في صحبة عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري) محاور ذاتية وأخرى موضوعية، صاغها في قالب فني بديع، يُعلي من قيمة الأدب المغربي الأصيل، وزّعها على مساحات نصية قد تطول، وقد تقصر حسب الدفقة الشعورية والوجدانية التي طغى عليها الحزن والأسى والحسرة، فالفقد جلل، ومصيبة الموت عظيمة، ولا راد لقضاء الله. ولم يكن أمام مؤلف هذه السيرة الغيرية، وهو من هو في النبوغ المغربي، أن يعرض صفحًا عن فضاءات كان يتملى فيها بطلعة عميد الأدب المغربي، إن في مدينة الرباط العتيقة، أو في جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أو في النادي الجراري، أو في منزل الراحل عباس الجراري. والحديث ذو شجون.
إن هذه الفضاءات/النوستالجيا، وثّقها الدكتور محمد احميدة بشكل بارع، والمناسبة شرط؛ إنها ذكرى رحيل عميد الأدب المغربي الذي ناضل من أجل استنبات مفاهيم الأدب المغربي في الجامعة المغربية، وقد تقلد منصب رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وحبّب الأدب المغربي للطلاب بفضل نبله وكرمه العلمي الفياض، إذ كان يُغدق على طلابه بمصادر ومراجع نفيسة في الأدب المغربي، لم يكن من السهل الحصول عليها، وقد وثّق الدكتور محمد احميدة طرائف وملَحًا تستبطن خصال الفقيد في الكرم العلمي، وتكليف الطلبة بإنجاز عروض حول كتب في الأدب المغربي الأصيل، ويكفيه فخرًا في هذا الباب أنه كان أول من أشرف على بحث جامعي في الأدب الأمازيغي المغربي.
إن إثارة مثل هذه النوادر في هذا الكتاب تدل دلالة واضحة على مدى تعلق الدكتور محمد احميدة بأستاذه وأستاذ الأجيال المغربية المرحوم عباس الجراري، وهو من هو في العلم، والأدب، والتواضع، والأخلاق الفاضلة، والنبوغ المغربي الأصيل. وقد تعلق به تعلق الطالب الذي كان يتلمس القدوة في الحياة العلمية والأكاديمية، وكان ذلك بداية التحاقه بكلية الآداب (فرع فاس) في الموسم الدراسي (1969-1970)، ووقتها كان منبهرًا إلى حد كبير بالمحاضرات التي كان يُلقيها الفقيد على طلبته في الأدب المغربي، وتوطدت هذه الصلة العلمية والأكاديمية عندما حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وحظي بشرف التسجيل في تخصص الأدب المغربي بالسلك الثالث لنيل شهادة استكمال الدروس في جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وهذه الصلة العلمية والإنسانية تؤرخ لحقبة أدبية مغربية في غاية الأهمية والخصوصية.
والصيغ الأدبية التي صاغ بها المؤلف محمد احميدة محاور هذا الكتاب خير دليل على أواصر الإنسانية بين الطالب وأستاذه، سواء تعلق الأمر بأواصر مدرسة الحياة العامة، أو بأواصر الحياة الجامعية، إن في سلك الإجازة أو في السلك الثالث؛ تخصص الأدب المغربي، أو في سلك الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، بجامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط؛ هذه الأواصر التي لخّصها الدكتور محمد احميدة في جمل مركبة تدل على محاور وثيقة الصلة بالتواصل الإنساني المثمر، الذي نما وترعرع في بيئة علمية أكاديمية، تتعدد فضاءاتها الثقافية، والاجتماعية، والإنسانية، لكنها تتوحد في أهدافها ومقاصدها النبيلة، المتمثلة أساسًا في خدمة التنمية الإنسانية، عبر الانفتاح المثمر على مختلف الأنواع الأدبية؛ من شعر فصيح، وزجل، وشعر ملحون، وشعر حساني، وشعر أمازيغي. والرسائل والأطاريح التي أشرف عليها المرحوم عباس الجراري، أو تلك التي شارك في مناقشتها وتقويمها الدكتور محمد احميدة، خير دليل على احتفاء هذه التجربة الإنسانية بقيمة الأدب المغربي، وإحلاله مكانة رفيعة بين الآداب العالمية.
إن الجمل المركبة التي أومأنا إليها سابقًا تنضح بالاتساق والانسجام، وسأكتفي ها هنا بالإشارة إلى بعض تجلياتهما:
- أسوار مدينة الرباط تجمعنا:
فكك الدكتور محمد احميدة عناصر هذه الجملة في نص أدبي هو بمثابة نوع من “النوستالجيا” إلى المدينة العتيقة، حيث الانبهار بقامة علمية رفيعة من طينة العلّامة عباس الجراري، وعلى منوال هذه الصيغة الأدبية الوارفة الظلال انبرى قلمه لصياغة عناوين لمحاور تترا في هذا السجل/السيرة الغيرية، تنم عن أواصر التلقي، باعتباره مكونًا رئيسًا في نظرية الأدب، وفي كتب التراجم في الأدب المغربي. - مع أستاذي في الجامعة طالبًا:
هذا المحور الذي استوى عوده في تسعٍ وثلاثين صفحة من الاسترسال في الحديث، أو لنقل في البوح الوجداني، والعلمي، والأكاديمي؛ بوحٌ جميل لا يمكن أن يصدر إلا عن باحث أكاديمي خبر صعوبات البحث العلمي الرصين، وما ينجم عنه من نكران ذات، وصبر، وحِلم، وتواضع. ولَعَمري فهذه الصفات تمتّ بصلة وثيقة بالتلقي الأدبي الوارف، ولا يتحلى بها إلا العلماء الأفاضل الذين كرّسوا حياتهم لخدمة العلم، والأدب، والقيم الإنسانية الرفيعة. - مرحلة التحاقي بالنادي الجراري:
لقد تكرر حرف المد في هذه الصياغة الفنية ست مرات، وهذا التكرار ينمّ عن تأثر الدكتور محمد احميدة بوفاة عميد الأدب المغربي، وما خلفته في وجدانه، وقد أشار في أكثر من موضع في هذا السجل/السيرة الغيرية، إلى أن صلته بالمرحوم تجاوزت علاقة الطالب بالأستاذ ووصلت إلى درجة تعلّق الابن بأبيه، ومن منا لا يتذكر معاناة فقد الأب؟ إنها معاناة ممتدة في الزمان والمكان. وقد اختار المؤلف في هذا التركيب اللغوي كلمة “التحاقي” المقرونة بياء المتكلم عن سبق إصرار لتتناسب وتنسجم ولفظة “الجراري” هذا النسب الذي استقر في السويداء من القلب. - في رحاب جمعية رباط الفتح:
استوى عود هذا المحور/الجملة في خمسة ألفاظ اختارها المؤلف محمد احميدة بعناية فائقة، باحثًا عن قارئ مفترض، قد لا تعوزه الذخيرة الفكرية لفكّ مستغلقات هذا التركيب اللغوي، باعتباره عتبة نصية، ستسلمه طوعًا لمعانقة نص منسوج بعناية قلّ نظيرها، موزّع على سبع صفحات، انتظم فيها المعنى بالمبنى بشكل بديع. كيف لا؟ والمرحوم عباس الجراري هو من أشار على طالبه المجد أن يلج جمعية رباط الخير من بابها الواسع، وقد أبلى فيها البلاء الحسن. وهي من هي في العمل الجمعوي الثقافي المثمر واليانع. وما احتفاؤها بنوابغ الأدب المغربي الأصيل إلا ملمحًا من ملامح وملاحم البذل والعطاء. - بلاغة الإهداء تحكي:
هذا التركيب اللغوي المجازي يستبطن دلالات عميقة، قد يصل إليها القارئ النموذجي الذي عقد ألفة مع مثل هذه التراكيب البلاغية بقراءة النص المحكي قراءةً عالمة، تستبطن سردًا معتقًا، تتمظهر تجلياته في الكتب التي ألّفها الراحل عباس الجراري.
لقد بذل الدكتور محمد احميدة جهودًا علمية حثيثة لإخراج كتابه “في صحبة عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري” إلى حيّز الوجود في الذكرى الأولى لرحيل صاحب كتاب “زهرة الآس في فضائل العباس”، ولا شك أنه قد أغفل جوانب أخرى في هذا السجل/السيرة الغيرية، والجزء الثاني منه آتٍ، إن عاجلًا أو آجلًا لا ريب. والمشيرات، والعلامات، والأيقونات، التي يطفح بها هذا السجل، سيعود إليها الدكتور محمد احميدة فاحصًا، ومفككًا لدلالاتها، وسياقاتها، وحمولاتها الأدبية، والفكرية. ولعلّ الملحق المثبت في الكتاب، الذي ضمنه جملةً من الصور التي تؤرخ لمناسبات أدبية، وثقافية، في فضاءات تشهد على روابط إنسانية، واجتماعية، وثقافية، بالغة الأهمية والخصوصية، لاستكمال البياضات، والفجوات، والفراغات التي يطفح بها هذا السجل من ألفه إلى يائه.